نظرية " الشّنكات "
في الستينات من القرن الماضي حاول " سيمون و شاس من جامعة كرنيكي ملون
" التوصل إلى فهم أفضل لذاكرة الخبراء , إذ تابعا ما قام به " دو كروت
" , بسؤال واختبار لاعبي الشطرنج من مستويات مختلفة , فتبين لهم أن
الذاكرة الشطرنجية هي نوعية أكثر مما كان يبدو من حيث إنها ليست مجرد توالف
مع اللعبة نفسها , بل توالف مع الأوضاع النمطية لأحجار الشطرنج .
فهذه التجارب أيدت الدراسات السابقة التي بينت بشكل مقنع أن القدرة أو الخبرة
في مجال ما لا تنحو إلى الانتقال إلى مجال آخر .
كيف يعالج أساتذة الشطرنج كميات واسعة من المعلومات الشطرنجية المخزنة لديهم
, وهي مهمة يبدو أنها ترهق الذاكرة العاملة ؟
لقد فسر " سيمون " ذلك باستعمالهم تشكيل الأوضاع الشطرنجية الكيفية
باستخدام نموذجاَ مبنياً على مجموعات من أحجار الشطرنج يتكرر ظهورها في
أوضاع محددة تدعى " الشّنكات " . لكي يتوضح مفهوم الشّنكات يجب
توضيح " الذاكرة العاملة " التي يقول عنها عالم النفس " ميلر " أنها
( دفتر خربشات الدماغ ) والذي يعتمد ما يكتب فيه على ما يتم تذكره
والتفكير فيه , ولا يمكن أن نفكر إلا بسبع + , - 2 أشياء أو مفردات
في وقت واحد , وبضم تراتيبات المعلومات في شنكات يستطيع أساتذة الشطرنج
احتواء كمية كبيرة من المعلومات في هذه الشّنكات السبعة . ففي سياق الشطرنج
يمكن ملاحظة الفروق ما بين المبتدئين وأساتذة الشطرنج . فإذا كان على رقعة
الشطرنج عشرون قطعة فقد يمثل ذلك بالنسبة للمبتدئ عشرون شكنة معلومات أما أ
ستاذ الشطرنج فإنه يجمع بين قطع ليشكل عدد قليل من شنكات يستطيع التعامل مها
بسهولة .
وهذا يشابه القراءة الكلمات بدل من قراءة الحروف أو قراءة الجمل بدل من قراءة
الكلمات . فبدل أن يحوي الشّنكة حرف يمكن أن يحوي كلمة , أو يحوي جملة
أو فكرة , أو يحوي قصة فيها مجموعة أفكار وحوادث .
والمتفق عليه في موضوع اكتساب الخبرة هو أن تشكل هذه البنى في الدماغ
جهداً ووقتاً كبيراً , ويقول " أريكسون " أن المهم في اكتساب الخبرة المثابرة
وبزل الجهد باستمرار لموجهة تحديات تتجاوز إمكانات المرء .
يبدأ تاريخ المهارات البشرية بتعلم التعرف على الوجوه , وجه الأم
وتمييزها عن وجوه الغرباء , ثم والتعرف على الأصوات . ثم تعلم التحكم
بحركات أعضاء الجسم , ثم الكلام والمشي وباقي المهارات الفكرية والعملية
كافة .
وبالنسبة لأسلافنا الأوائل كان اكتساب مهارة الصيد , وهي مهارة حاسمة لبقائه
على قيد الحياة . فالصياد الماهر والخبير يعرف أين توجد الطرائد وكيف يتتبعها
, وكيف يباغتها أو يتحايل عليها ليصطادها . فهو كان يكتسب هذه المهارات
ويتعلمها من جماعته بشكل متدرج ومتصاعد منذ طفولته , وتنمو خبرته
وفق علاقة خطية وذلك حتى أواسط الثلاثينيات من العمر حيث تبلغ الأوج .
ويتم اكتساب المهارات والخبرات , أو التعلم لأي شكل من مهارات أكانت
أم عملية , عن طريق بناء برامج دماغية , وهذا لا يتم إلا بمشاركة
القديم .
التعلم يختلف عن تسجيل الأفكار والحوادث وغيرها في الذاكرة , من ناحية
تنوعه وحجمه فهو اكتساب طرق تصرف واستجابات وتفكير ( أو برامج )
متكاملة ومتطورة , في مجال ما , أكان تعلم ألحكي أو تعلم المشي أو
قيادة دراجة أو سيارة أو تعلم رياضة معينة أو تعلم العزف على آلة موسيقية ما
أو الغناء أو الرقص أو تعلم مهنة ....... إلخ .
وبالنسبة لنا هناك برامج تصرف أو مهارات واستجابات نرثها بيولوجياً كالدوافع
والانفعالات وغيرها , وهناك برامج تصرفات نكتسبها أو نتعلمها نتيجة حياتنا
الاجتماعية الثقافية والحضارية , كاكتساب اللغة الأم والقراءة والكتابة والمهن
الزراعية والصناعية والتجارية والكثير الكثير غيرها .
فالمهارات المكتسبة نتيجة التعلم تكون نتيجة عمل ومشاركة غالبية بنيات الدماغ ,
الدماغ الحوفي واللحاء والمخيخ وبشكل خاص الدماغ القديم , ويحدث
وتعاون بينهم , ولا يتم هذا الاكتساب بسرعة أو بسهولة , فيلزمه
وممارسة لفترات طويلة كي يتم .
فالخبرة والمهارة هي مجموعة برامج فكرية
( أي تصرفات واستجابات ومعالجات فكرية
تم اكتسابها نتيجة عمل وتفكير وجهد موجه ولفترات طويلة
ويجب أن تكون البنيات التحتية لهذه المهارات متوفرة .
واكتساب المهارة والخبرة لا يعتمد كثيراً على التحليل , بل على المعرفة
والممارسة المتكررة .
إن غالبية أنظمة التعليم الأساسي والثانوي والجامعي تهتم بالدرجة
بتعليم مهارات القراءة والكتابة والحساب . . . , و
التحتية اللازمة لغالبية المهارات , وهي لا تكسب المتعلمين الخبرة
بل تعلمهم البنيات التحتية التي سوف تلزمهم عندما يريدوا ممارسة أعملهم
مستقبلاً ويصبحوا ماهرين أو خبراء فيها .
البنيات التحتية الواجب توفرها للخبرة المطلوب اكتسابها .
إن أي مهارة لا يمكن أن تكتسب دون توفر البنيات التحتية اللازمة لها ,
فتعلم الكلام يلزمه توفر كافة القدرات الضرورية فمثلاً إذا كان الطفل لا
يسمع لا يمكنه تعلم الكلام , وكل مهنة أو خبرة يلزمها بنياتها التحتية .
الاستراتيجية والنظرة الشمولية , كيف يقرأ الخبير الأوضاع والأحداث
مثلاً كيف يقرأ لاعب الشطرنج الخبير وضعه أثناء اللعب , أنه يرى إن
وضع قطعه مناسب إذا كان يريد أن يشن هجوم أو يقوم بتضحية لتحقيق مكاسب
أو يرى أن أحد جهاته أو الوسط ضعيف ويمكن أن يتعرض لهجوم خصمه عليه ,
فتقييم الوضع الشامل ووضع استراتيجيات الدفاع أو الهجوم هي الأمور الهامة
بالنسبة له لتحقيق فوزه . و خبراء الاقتصاد وخبراء الساسة وخبراء
الإلكترونيات وخبراء الرياضيات وخبراء الطب وخبراء الفيزياء أو الكيمياء
أو البيولوجيا و خبراء الهندسة في كافة مجالاتها خبراء الآثار . . ,
يفعلون كذلك يعتمدون استراتيجيات لقراءة الأحداث والأوضاع والمستقبل.
دور الموهبة أو الموروث البيولوجي القدرات الشخصية الجسمية والفكرية .
وتشير الأدلة إلى رجحان أن الخبراء يصنعون ولا يولدون . يظهر أن التحفيز
والممارسة يشكل عاملا أكثر أهمية من المقدرة الفطرية الموروثة , في تشكل
الخبرة ونمائها , وليس عرضاَ أن المهارة والخبرة في الموسيقى والشطرنج
وأصناف الرياضة . . . الخ جميعها تتحدد الخبرة فيها بالأداء
والتنافس ( وليس بالشهادة الأكاديمية ) . إضافة إلى ذلك فإن النجاح يبنى
على النجاح , لأن كل نجاح يقوي ويعزز التحفيز والممارسة وبالتالي نمو
ونضوج الخبرة .
اكتساب الخبرة والإبداع
الخبرة هي التقليد والنسخ والتكرار , وهذا يمكن أن يعيق الإبداع الذي هو
تجديد والخروج عن المألوف والمنسوخ , فالخبرة لازمة ولكنها غير كافية ,
فيجب أن يملك المبدع الخبرة بالإضافة إلى دوافع وقدرات التجديد والتطوير,
وأن يكون لديه ميل للإطلاع والمعرفة والبحث عن المعلومات الجديدة ,
وامتلاكه قدرة عالية على اكتشاف الكثير من الحلول الملائمة للمشكلة ,
وإعادة بناء خبراته في صياغة جديدة أفضل . وعندها يصبح من العباقرة
والعلماء المميزين .